lundi 3 octobre 2011

رحلة في أرض الألغام الأخطر بالمغرب

رحلة في أخطر أرض بالمغرب

"المساء" تخترق حقول الألغام بالصحراء وتكشف تفاصيل الحرب المستمرة بين المغرب والبوليساريو

نحن الآن بضواحي السمارة، على بعد خطوات من الحزام الأمني الفاصل بين المغرب والبوليساريو. هنا يسكن الموت تحت الحجارة الصماء. هذه البقعة من المغرب هي من أخطر ما يوجد فوق سطح الكوكب حسب المرصد الدولي للألغام. فوق هذه الأرض، يجب أن تفكر لحظات قبل أن تخطو خطوتك الثانية. ألغام مختبئة تحت الرمال الساكنة، وقنابل عنقدوية متربصة بين الأحراش. "المساء" اخترقت حقول الألغام بالجنوب، وتجولت بين القنابل والذخائر الحية وبقايا الأسلحة والصواريخ، والتقت ضحايا حرب ما زالت مشتعلة حتى اليوم.
...........................

أجرى التحقيق:
عزيز الحور (العيون- السمارة)
...............................

يوم الاثنين 11 شتنبر 2011 حل ممثل المغرب الدائم لدى الأمم المتحدة بجنيف، رفقة وفد رسمي، بالعاصمة اللبنانية بيروت لحضور أشغال المؤتمر الدولي الثاني للدول الأطراف في اتفاقية القنابل العنقودية. اهتمام بالغ بدا على أعضاء الوفد المغربي المشارك وهم يستمعون إلى رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشيل سليمان، ويناقشون، تحت قبة قصر "اليونيسكو"، موضوع قنابل تخلف قتلى وضحايا وأشلاء وأرامل وأيتام في المغرب منذ النصف الثاني من القرن الماضي.
يوم الأربعاء 20 أبريل الماضي، كان يوما قائظا خرج فيه اغضن محمد العبدي الرامي ورفيقه الخليفة علي خر في رحلة معتادة يتجولان على متن سيارة دفع رباعي بمنطقة "روس أخريبيشات"، شمال السمارة بحثا عن مراع جديدة لمواشيهما بعدما أنهكت الرمال الزاحفة أغلب المراعي بالمكان. فجأة انفجرت سيارتهما الـ"لاند روفير". تحطمت السيارة كليا. تطاير راكباها قبل يسقطا أرضا وأصيبا بجروح مختلفة الخطورة وكسور بأنحاء من جسدهما.
حلت سيارات الجيش على عجل. نُقل الضحيتان إلى المستشفى، بعد أن تم التأكد من أنهما مرا فوق لغم ظل رابضا بهذا الخلاء ينتظر من سيخطو فوقه ذات يوم.
الثامنة والنصف من صباح يوم الخميس 2 شتنبر 2010، سيارة دفع رباعي تنفجر بقوة بمنطقة "نكب لعكال" قرب "البيرات" بالصحراء المغربية. الانفجار أودى بحياة الطفل سعيد، البالغ من العمر 14 سنة، بينما أصيب والده ديدا سويلم لعروصي وشخص كان يرافقهما بجروح خطيرة بالوجه واليدين. الثلاثة كانوا هم أيضا يتفقدون قطيعا من الإبل قبل أن ينفجر بسيارتهم لغم. تركوا هنالك ثماني ساعات حتى حلت سيارة إسعاف وأقلتهم إلى مستشفى مدينة آسا.
ثلاثة أيضا تعرضوا لحادث مشابه قبل يومين من حادث "نكب لعكال"، أي يوم الثلاثاء 31 غشت 2010، وذلك بضواحي مدينة الداخلة. طفل آخر يدعى المحفوظ يحي أحمد فال بليلة، ذو الأربعة عشر ربيعا، توفي، بينما أصيب والده وعمه بجروح وكسور.
هذه العائلة الصحراوية ألفت انفجارات الألغام المنتشرة بالمكان، فقد سبق لعم الطفل المحفوظ أن توفي، قبل ثلاث سنوات من الحادث، أي في سنة 2007، بعدما انفجر به لغم، أرداه على الفور. الأغرب من ذلك هو أن أحد أعمام الطفل أصيب في الحادثتين معا، بحكم أنه كان يرافق شقيقيه في رحلتيهما المميتتين هاتين.
قائمة الهلكى بدأت باحتلال إسبانيا للمغرب، وحرب الرمال سنة 1963، ثم معارك المغرب مع البوليساريو طيلة السبعينات والثمانينات. كرونولوجيا الأحداث المتلاحقة مستمرة، المعارك لم تتوقف، وقائمة ضحاياها لم تغلق، عشرة، مائة، مائتان.. الآن بالمغرب أزيد من ألفين و187 ضحية، بينهم 544 قتيلا، وآخرون كتب عليهم مواصلة حياتهم بأعين مفقوءة وأيد وأرجل وأطراف مبتورة.
"المساء" زارت هذه أراضي الموت بعمق الصحراء المغربية، رفقة مجموعة من ضحايا حرب الألغام.
......................
بدا على أعضاء جمعية ضحايا الألغام توتر واضطراب طيلة هذه الرحلة التي قادتنا إلى أماكن تنتشر بها ألغام كانت سبب خط سطر أول في كتاب حياتهم التي صارت أدهى وأمر.
في ضيافة الموت
في السادسة صباحا، وقرب ثكنة الفوج السادس عشر للمشاة، التقينا ببعض ضحايا الألغام بالصحراء، قصد التوجه إلى منطقة الحوزة، التي تبعد عن السمارة، بمائة كيلومتر. كانت هذه الأرض من أعتى ساحات الحرب بين الجيش المغربي والبوليساريو. اليوم هي أخطر بقعة بالصحراء بسبب انتشار الألغام والقنابل العنقودية. "هذه المناطق التي تراها الآن كلها مليئة بالألغام. هنا بالحوزة وبالخريبيشات توجد قنابل عنقودية قابلة للانفجار بمجرد لمسها. المشكل هو أنه يصعب تحديد مكانها بسبب تغيره نظرا لانجراف التربة نتيجة سيول ويدان عدة بينها وادي الساقية الحمراء. هذه عوامل تفرض التعجيل بالتخلص من الألغام"، يتحدث الشيخ أحمد بليمام، وهو يترنح على أنغام موسيقى حسانية صادرة عن مذياع سيارة الـ"لاند روفير" المتهالك تقول "المدارس عادت سجون والمساجد عادت معتقلات...".
خلال حديثنا مرت ثلاث سيارات "طويوطا" تابعة لقوات "المينورسو" بالصحراء، "إنهم يتنقلون يوميا إلى تندوف عبر السنتور (يقصد الحزام الأمني)، ويسلكون معابر خالية من الألغام يتوفر الجيش على خرائطها"، يقول زويدة، سائقنا في هذه الرحلة.
يشير أعضاء جمعية ضحايا الألغام الذين خاضوا مع "المساء" هذه الرحلة، إلى أنه لم يكن أحد يجرؤ أن يمر بسيارته عبر هذه الطريق المعبدة الرابطة بين السمارة والحوزة، والسبب هو أن الألغام، لفرط انتشارها بهذا المكان، كانت مشتتة بالطريق. في الطريق إلى الحوزة مررنا، بوادي النبط، المتفرع عن الساقية الحمراء. علامات تحذر من الألغام وضعتها قوات "المينورسو" تظهر على جانبي الطريق التي تقطع هذا الوادي. "مكث الجيش مدة ثلاثة أشهر، أبريل وماي ويونيو من السنة الماضية، بغرض تنقيته من الألغام المنتشرة به، والتي أودت بحياة كثير من المارة والرعاة"، يضيف زويدة.
الجيش هو الذي يدير أغلب عمليات تنقية هذه الفيافي الجرداء من الألغام. كما أنه هو الجهة الوحيدة التي تملك خرائط بحقول الألغام المنتشرة هنا، ويحتفظ بشكل حضري يتعذر معه الحصول عليها.
كلما اقتربنا من "السنتور" كلما ارتفعت الحرارة. لهيب حار تنقله رياح قائظة قادمة من وراء الحزام الأمني على الحدود مع الجزائر. كلما تقدمنا في المسير كلما ظهرت حقول ألغام أكثر، "في هذا المكان  يسمى الجحش (يشير إلى خلاء بجانب الطريق تحده هضاب صخرية) تنتشر ألغام وضعها الإسبان خلال وجودهم هنا. كانوا يتخذون هذا المكان طريقا لمرور مركباتهم العسكرية، وكانوا يلجؤون إلى وضع الألغام لتأمين طريقهم. هنا تفجر لغم بشخص دخل هنا لقضاء حاجته"، يردف زويدة قبل أن يقاطعه الشيخ أحمد قائلا، "توجد في هذه المنطقة أيضا ألغام روسية الصنع مغلفة بالبلاستيك، زرعتها عناصر البوليساريو، يستعصي كشفها بآلات المسح التي تلتقط الحديد والمعادن".
"هذا وادي كسات حيث يتمركز الجنود المغاربة.. هو أيضا مليء بالألغام.. هذه "قعيدة الجحوش".. هي أيضا بها ألغام رغم أن الجيش أخلى أغلبها من الألغام في سنة 2009"، يشير زويدة إلى مناطق على جانبي الطريق على الحوزة. لم يبد أن هناك أرضا خالية من الألغام هنا. المكان الوحيد الخالي من الألغام على طول هذه الطريق المقفرة هو عبارة عن تل يوجد به لاقط هوائي كبير، يحرسه شاب. بهذا المكان وجدنا ثلاثة عناصر من قوات المينورسو يتناولون فطورهم. هذا هو المكان الوحيد المؤمن بهذه المنطقة الذي يضمن رجال المينورسو والعابرون من هنا الاستراحة فيه دون التعرض لخطر انفجار.
واصلنا الرحلة حتى منطقة الحوزة التي لم يبق لها على الحزام الأمني سوى القليل. مقر جماعة الحوزة على جانب الطريق. بجانبه جلس عشرات الجنود قرب أمتعتهم تحت الشمس التي بدأت تحتر أكثر، ينتظرون إجلاءهم إلى مدن الداخل بعد انتهاء نوباتهم العسكرية.
في الجانب الآخر من الطريق، أمام مقر جماعة الحوزة، ظهر بناء خرب، بجانبه مدخل مظلم تحت الأرض، أحيط بسياج. خلف باب المدخل الحديدي بناء مكون من غرف عدة يظهر أنها إلى إسطبلات بحكم وجود أكوام تبن. "عاش الملك" تظهر واضحة في الحائط المقابل للمدخل من هذا البناء. "هذا هو المكان الذي كان يحتمي به محمد عبد العزيز المراكشي رفقة قيادات البوليساريو خلال المواجهات مع الجيش المغربي"، يقول رفقاؤنا.
من هذا المكان كانت قوات البوليساريو تنطلق من أجل قصد مدينة السمارة والمدن المجاورة لها. وبسبب تمركز القيادة العسكرية لجبهة البوليساريو هنا فقد كانت منطقة قتال محتدم. "كان الجيش المغربي يقصف هذه المنطقة بصواريخ عدة بينها صواريخ محملة بالقنابل العنقودية، وهذا ما يفسر انتشار هذه القنابل هنا وتسببها في مقتل أشخاص حتى اليوم"، يوضح أحمد الوعبان، أحد الضحايا الذين رافقونا في هذه الرحلة.
في المقابل، كانت قوات البوليساريو تلجأ إلى تفخيم محيط تواجدها بالألغام حتى يتعذر على الجنود المغاربة الوصول إليهم، "القيادات العسكرية للبوليساريو كانت تضع كميات كبيرة من الألغام داخل حقائب ظهرية وتلزم جنود البوليساريو بحملها وزرعها في أماكن معلومة بالصحراء، لمنع تقدم الجنود المغاربة، غير أن هؤلاء الجنود كانوا يلقون بالألغام بشكل عشوائي للتخلص من الثقل الكبير الملقى على ظهورهم. هذا ما يفسر وجود حقول ألغام خطرة بدون خرائط حتى اليوم، وهذا ما أكده لي جنود بوليساريو شاركوا في هذه العمليات"، يكشف نور الدين ضريف، عضو المجلس الاستشاري للشؤون الصحراوية والكاتب العام المؤسس لجمعية ضحايا الألغام.
هذه إذن هي أخطر بقعة في المغرب، بل على وجه الأرض كما تكشف تقارير دولية مختصة، والسبب تناثر ألغام وقنابل عنقودية لا خرائط لها. دقات القلب بدأت تتسارع كلما تقدما في المسير في اتجاه كثبان رملية وأشجار استقر قربها رعاة. قرب إحدى خيام الرعاة هاته هالنا منظر لا يمكن رؤيته إلى في هذه البقعة من الأرض، بقايا ذخائر وصواريخ تحمل قنابل عنقودية منتشرة بالمكان. يسميها الصحراويون "العنقود". لغم أرضي يظهر بلون أخضر باهت يتخفى بين الرمال والأحراش. لا تكاد العين تراه. قربه كميات كبيرة من رصاص كبير الحجم بعضه فارغ وبعضه ما زال محشوا بالبارود وقابلا للانفجار.
التحق بنا حارس مقر جماعة الحوزة، الذي نشأ على هذه الأرض. صار يعرف جيدا أماكن وجود الألغام والقنابل العنقدوية. ببطء تقدمنا خلفه خوفا من انفجار لغم. لا علامات تحذيرية هنا. الحرارة بدأت تشتد أكثر والخوف صار أكثر حدة. فجأة يشير إلى مكان به أربعة كرات حديدية صدئة محاطة بحجارة، "هذه هي الألغام العنقدوية. يكفي تحريكها كي تتفجر بقوة. لا يمكن لنا إزالتها من هنا، وحدهما الجيش أو المينورسو من يملكان الوسائل لذلك. نكتفي بإحاطتها بحجارة. أي مكان تجده في الصحراء محاطة بحجارة فاعلم أن به لغما أو قنبلة عنقودية"، يوضح حارس جماعة الحوزة.
"أغلب ضحايا هذه الألغام والقنابل هنا هم أطفال لا يمكن تمييزها أو تفاديها بالرغم من إحاطتها بحجارة. يظنون أنها لعب فيحاولون مسكها فتنفجر بهم. هذا ما حدث للوعبان الذي أصيب بلغم عندما كان صغيرا"، يستطرد الشيخ أحمد.
كيف صارت هذه البقعة من المغرب من أخطر ما يوجد على الأرض؟ من وضع هذه الألغام والقنابل العنقدوية هنا؟ كيف تم ذلك؟ لماذا يتكتم الجيش على خرائط هذه الألغام؟ ما علاقة البوليساريو بهذا المشكل؟
خريطة اللغم
حتى مدير قسم الشؤون العامة بعمالة السمارة لا يتوفر على معطيات دقيقة حول خرائط الألغام وحقول القنابل العنقودية بهذا الجزء من الصحراء. المسؤول أحالنا على جمعية ضحايا الألغام التي تشتغل على هذا الموضوع أكثر من الإدارة الترابية نفسها. الأمر مرتبط بحساسية الموضوع وتخصص القوات الملكية المسلحة به، كما كشف هذا المسؤول لـ"المساء".
باب الجيش موصد حتى في وجه العمالة والجمعية المختصة في ملف الألغام. الخرائط  المتوفرة، والتي تخص فقط الألغام التي وضعها الجيش، محاطة بسياج من التكتم والسرية. الترسيم الذي يحدد حقوق الألغام بالصحراء الآن يبقى تقربيا، وهو ما كشف عنه مصدر مطلع أوضح أن حقول الألغام بالصحراء المغربية مقسمة إلى عدة أنواع، ألوها ألغام وضعت خلال فترة الاحتلال الإسباني لتأمين مناطقه وقواعده العسكرية بالصحراء التي كان يحتلها.
خلال حرب الرمال سنة 1963 بين المغاربة والجزائر على الحدود بين البلدين وضعت ألغام على الحدود بشكل مكثف لمنع تقدم جيشي البلدين، ونظرا لكثافة هذه الحقول الملغومة عمدت الشركة الروسية التي أوكلت لها مهمة تشييد الحزام الأمني إلى بناء الحزام فوق حقول الألغام دون إزالتها. الشركة ذاته، كما يكشف المصدر ذاته، تركت ثلاثة معابر على طول الحزام الأمني مؤمنة من الألغام. هذه الممرات هي التي تستعملها سيارات المينورسو للتنقل بين المغرب والجزائر عبر الصحراء. ما تبقى من المناطق التي يوجد بها الحزام الأمني هي أماكن ملغومة.
غير أن أخطر الألغام هي تلك التي وضعتها قوات البوليساريو، والسبب أن مكانها غير معروف، حتى واضعوها لا يمكنهم تحديد مواقعها على اعتبار أنها وضعت بشكل عشوائي. الغرض من وضع هذه الألغام، خاصة بالمناطق الحدودية المجاورة لمخيمات تندوف هو منع المحتجزين في المخيمات من الفرار والعودة إلى المغرب.
ألغام أخرى مجهولة خرائطها وضعت من قبل مهربين، كما أكدت مصادر عدة لـ"المساء". هذه الألغام وضعت من قبل مافيات المخدرات والهجرة السرية، بشكل فردي أو بتنسيق مع البوليساريو، من أجل تأمين خطوط تهريب المخدرات والسجائر وحتى الأسلحة والبشر، دون أن يتمكن الجيش من تعقبهم مخافة التعرض لانفجارات الألغام. غير أن هؤلاء المهربين يعمدون إلى ترك ممرات بين الألغام، تحدد بشكل تقني متطور قبل الـ"جي بي إر إس" والذي يحدد مسار المهربين بين حقول الألغام بدقة.
تحركات المهربين تكون حتى داخل نوع آخر من حقول الألغام وضعها الجيش المغربي نفسه خلال حربه مع الجزائر والبوليساريو. وعلى اعتبار أن الجيش المغربي جيش نظامي، فقد عمد إلى وضع هذه الألغام بشكل دقيق وفق خرائط يتوفر عليها بشكل حصري. وفق هذه الخرائط يجري الجيش حاليا عمليات لنزع الألغام.
هذه الألغام التي وضعها الجيش المغربي تتمركز أساسا بالركن الشمالي الغربي من الصحراء المغربية، على طول جدران ترابية دفاعية يبلغ طولها 3 أمتار وضعت ما بين 1982 لتأمين هذا الجزء من الصحراء. هذا ما ذكره تقرير صادر عن المرصد الدولي للألغام لسنة 2007.
"هناك مهربون تمكنوا من اختراق هذه الحقول ومعرفة مساراتها المؤمنة باللجوء إلى حيلة تتمثل في تقديم جمال محملة بالمخدرات والمواد المهربة أمامهم، فإن تمكنت هذه الجمال من المرور بدون أن تتعرض لأذى أصبح هذا الممر هو المستعمل من قبل المهربين لتنفيذ عملياتهم"، يوضح مصدر "المساء" قبل أن يضيف، "الأخطر من ذلك هو أن مهربين يتمكنون من الحصول، بطرق معينة، على خرائط الألغام من الجيش رغم سريتها، حتى ينفذوا عمليات التهريب بين حقول الألغام بشكل مؤمن. هذا ما يفسره توقيت جنود بين الفينة والأخرى إثر عمليات تهريب".
هذه الجولة المرعبة التي خاضتها "المساء" داخل حقول الألغام بضواحي مدينة السمارة تكشف حقيقة انتشار الألغام والقنابل العنقودية وبقايا الأسلحة والذخائر والصواريخ الخطرة بهذه المنطقة من المغرب. كما أن شهادات المصادر التي التقتها "المساء" أماطت اللثام عن حقائق مثيرة مرتبطة بخرائط الألغام التي يحوزها الجيش المنيع عن أي اختراق صحافي، والذي لم يسعفنا الوسائل في التزود بمعطيات منه بخصوص هذا الموضوع بحكم تكتمه على المعلومات التي يتوفر على وحده.
غير أن "المساء" لجأت إلى التنسيق مع منظمات دولية تمكنت، بحكم وضعها الخاص، من الاتصال بقادة كبار بالجيش وأجهزة الدولة المرتبط اهتمامها بموضوع الألغام. من بين هذه المنظمات التي اتصلت بها "المساء" منظمة الحماية من الأسلحة وآثارها، وهي منظمة غير حكومية تنشط في مجال مكافحة الألغام والقنابل العنقودية أساسا بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. هذه المنظمة زودتنا بنسخة من تقرير، صدر قبل في شهر أبريل الماضي، حول وضع الألغام بالمغرب، أعدته لفائدة المرصد الدولي للألغام، يكشف حقائق مضبوطة حول الموضوع.
الجيش في المقدمة
المغرب ليس عضوا بالمعاهدة الدولية لحظر الألغام، رغم أنه يصوت بشكل تطوعي على تقارير المرصد الدولي السنوية، ويزود المنظمات الدولية الناشطة في هذا المجال بمعلومات. آخر تصويت كان في 16 يونيو من السنة الماضية. سبب عدم مصادقة المغرب على هذه الاتفاقية، كما يكشف مسؤولون رسميون، بينهم جنرالات موجودون بالمنطقة العسكرية الثانية والثالثة بالصحراء المغرب، ومدير قسم المنظمات الدولية بوزارة الخارجية، لمنظمة مكافحة الأسلحة وآثارها، هو نزاع الصحراء، فحسب تقرير المنظمة، الذي توصلت "المساء" بنسخة منه، فلا يمكن للمغرب التوقيع على الاتفاقية ومشكل الصحراء ما زال قائما، بمعنى أن المغرب ما زال في حالة حرب مع البوليساريو.
المغرب من بين أخطر المناطق على وجه الأرض، حسب هذا التقرير، والسبب كثرة حقوق الألغام به، إلى درجة أن مدنا ومخيمات أقيمت فوق مناطق زرعت بها ألغام، كما هو مخيم الربيب بمدخل مدينة السمارة من جهة العيون، والذي سبق أن وقعت فيه حوادث انفجار ألغام راح ضحيتها بعض سكانه.
رغم أن المغرب لم يوقع بعد على الاتفاقية الدولية إلى أنه دخل، فعليا، في تطبيقها، فعندما استفسرت البعثة الخاصة بالمرصد الدولي للألغام المسؤولين المغاربة، في ماي 2009، إن كان الدولة المغربية تحتفظ بألغام من أجل استعمالها ضد الأفراد مستقبلا، أجاب المسؤولون "لا". هكذها ورد في التقرير على لسان أعضاء البعثة المغربية الدائمة بالأمم المتحدة، والذين أكدوا أن المغرب وقف استعمال وتخزين الألغام المضادة للأفراد منذ سنة 1987، كما أنه لم ينتجها قط، مؤكدا أن القوات المسلحة الملكية توقفت عن استخدما الألغام المضادة للأشخاص منذ توقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو سنة 1991.
في المقابل، صرح المسؤولون المغاربة لمبعوثي المنظمة الدولية أن القوات الملكية المسلحة تتوفر على كميات من الألغام المضادة للأفراد تستعمل في تدريب الجنود قصد المشاركة في عمليات حفظ السلام، غير أن المسؤولين المغاربة لم يكشفوا عن عدد هذه الكمية من الألغام، والتي قالوا إنها خامدة وغير قابلة للانفجار.
آخر اتصال بين المنظمة الدولية المعنية لمكافحة الألغام والمسؤولين المغاربة، كما كشفت الوثيقة التي حصلت عليها "المساء"، كان في مارس الماضي. هذا الاتصال كان عبارة عن رسالة موجهة إلى المرصد الدولي للألغام من قبل أعضاء البعثة المغربية بالأمم المتحدة في جنيف، جاء فيها أن الحكومة المغربية تعتبر الانضمام إلى اتفاقية مكافحة الألغام هدفا إستراتيجيا مرتبط أساسا بتوفير الضروريات الأمنية لحماية الأقاليم الجنوبية، أي أن وضع حد نهائي لمشكل الألغام بالصحراء مرتبط بالقضاء على البوليساريو.
وفي نونبر الماضي، تكشف الوثيقة، صرحت بعثة حكومية، قابلت ممثلي المرصد الدولي للألغام، أن المغرب يبحث إمكانية الخروج بقرار نهائي متعلق بالانضمام إلى اتفاقية حظر الألغام، مشيرة إلى أن المغرب سيواصل نهج سياسة متطابقة مع ما تنص عليه الاتفاقية الدولية.
هذه الحراك الدبلوماسي والعسكري يعكس مدى خطورة مشكل الألغام في المغرب. هذه الخطورة تنعكس، بدورها، على صفحات التقرير الذي أمدتنا به المنظمة الدولية، والذي يرصد كميات ومواقع الألغام بالصحراء المغربية.
التقرير ذاته استند على تقرير آخر حديث لمنظمة مواجهة العنف العسكري البريطانية أشارت فيه إلى أن الصحراء المغربية، رغم حملات التنقية التي يقوم بها الجيش المغربي، بألغام وقنابل عنقودية من نوع CBU-71  وBLU-63 أمريكية الصنع، فضلا ذخائر صغيرة عدة من عيار 155 ميلمترا، من نوع M483A1، وقذائف "هاون" غير منفجرة. هذه القنابل والذخائر هي التي عثرت عليها "المساء" خلال جولتنا بمناطق الحوزة الملغومة قرب مدينة السمارة.
القنابل العنقودية الموجودة بمناطق مختلفة بالصحراء المغربية، يوضح التقرير ذاته، ألقي بها على مواقع البوليساريو خلال الحرب التي دارت ما بين 1975 و1988. فقد قصفت القوات المسلحة الملكية الجوية، ما بين 1980 و1981 تحديدا، مناطق عدة بينها الحوزة وكلتة زمور والمسيد بقنابل عنقودية فرنسية الصنع، بينما تم قصف مواقع البوليساريو ببوكراع، الواقعة بين السمارة والعيون، بقنابل عنقودية أمريكية.
التقرير ذاته، كشف، بالاستناد على تقارير إدارة الدفاع الأمريكية، أن الولايات المتحدة هي المزود الرئيسي للمغرب بهذه الذخائر، وذلك على طول الفترة ما بين 1970 و1995. ورغم أن القوات المسلحة المغربية لم تطلع أحدا على كمية هذه القنابل العنقدوية والذخائر والألغام، فإن الوثيقة التي تم الحصول عليها من مصلحة الدفاع الأمريكية أشارت إلى الولايات المتحدة الأمريكية المغربية زودت المغرب بمليونين ونصف الملبون لغم وقنبلة عنقدوية.
أزيد من مليونين ونصف مليون لغم وقنبلة عنقدوية منتشرة بالصحراء إذن، دون احتساب الألغام التي وضعتها جبهة البولساريو بشكل عشوائي، والألغام التي سبق لإسبانيا أن وضعتها إبان احتلالها الصحراء المغربية، إلى جانب الألغام والقنابل العنقودية التي زرعها وألقى بها الجيش الجزائري على الحدود مع المغرب خلال حرب الرمال سنة 1963.
هذه الكمية الكبيرة من المتفجرات خلفت خسائر بشرية ومادية كبيرة منذ استقدامها واستعمالها في الصحراء المغربية سنة 1970. أمر فرض على القوات الملكية المسلحة بدأ خطة واسعة لتنقية الصحراء من الألغام والقنابل العنقودية والذخائر. آخر تصريح للمسؤولين المغاربة حول عملية التخلص من الألغام، أسروا به للمرصد الدولي للألغام خلال شهر أبريل الماضي، هو 120 ألف كيلومتر مربع. هذا ما يشهد عليه رفقاء "المساء" في الرحلة التي خضناها بالمناطق الملغومة من الصحراء، والذين أكدوا تقلص أعداد الألغام والقنابل التي كانت موجودة بكثرة من قبل.
نور الدين ضريف، الأمين العام السابق لجمعية ضحايا الألغام وعضو "الكوركاس"، أكد لـ"المساء"، أن العمليات التي يقودها الجيش لتنقية الصحراء من الألغام تضاعفت بشكل كبير سنة 2007، والسبب وفاة مسؤول مغربي نتبجة لعم. يتعلق الأمر بمحمد خطري ولد الجماني، رئيس جماعة كلتة زمور التابعة لجهة العيون الساقية الحمراء، والذي تفجر به لغم مطلع 2007، بمنطقة الحوزة التي تجولت فيها "المساء". الجماني، الذي كان عضوا بالمجلس الملكي للشؤون الصحراوية، توفي على الفور، بين نقل ثلاثة كانوا رفقته على متن سيارة دفع رباعي إلى المستشفى في حالات حرجة.
 وخلال الأسبوع ذاته قتلت فتاة وأصيب ذووها بجروح بعدما تفجر بهما لغم قرب مدينة الداخلة. حدثان متسارعان دفعا الملك محمد السادس إلى إعطاء أمره للقوات المسلحة بالتسريع من وتيرة تنقية الصحراء من الألغام.
حادث آخر ساهم في انطلاق عمليات تنقية منطقة الحزام الأمني من الألغام، يتعلق بمقتل مسؤول جزائري رفيع المستوى بلغم بهذه المنطقة.
آخر الأرقام التي ذكرها التقرير الذي حصلت عليه "المساء" يكف أن المغرب تمكن ما بين 30 مارس 2010 والتاريخ ذاته من سنة 2011 من تنقية 669 كيلومتر مربع إضافية من الألغام. هذه العملية أفضت إلى التخلص من ألف و171 لغم مضاد للأفراد، و6 آلاف و799 لغم مصاد للمركبات، وجمع 963 ذخيرة غير متفجرة، أو ما يصطلح عليه بـ"أوكسو"، رغم أن العديد منها ما زال منتشرا بالصحراء المغربية، وفق ما عاينته "المساء"، كما يقوم سكان هذه المناطق بجمع هذه الذخائر بغرض استعمالها في أغراض صناعية.
كمية كبيرة من الألغام والذخائر والقنابل العنقدوية ما زالت منتشرة على طول وعرض الصحراء المغربية، وهو ما دفع الجيش المغربي، في ابريل الماضي، إلى الترحيب بمساعدات في هذا المجال، حسب ما أفاد به التقرير الذي حصلت عليه "المساء"، والذي كشف كون الجيش المغربي لا يضم سوى 10 آلاف عسكري متخصص في كسح الألغام، يشتغل بـ400 آلة كشف للألغام المعدنية فقط.
هذه الحملات التمشيطية التي يقوم بها الجيش، فضلا عن عمليات أخرى تنفذها القوات التابعة للمينورسو، وتتمثل أساسا في وضع لافتات تحذر من وجود الألغام بمناطق معينة بالصحراء، مكنت من تقلص عدد الضحايا. اليوم لا تتجاوز عدد الوفيات الناجمة عن الألغام والقنابل العنقدوية اثنان وثلاث وفيات في السنة. أما الحصيلة الإجمالية الرسمية التي أسر بها المسؤولون المغاربة للمرصد الدولي للألغام، حتى حدود يوليوز 2008، هي ألفين و187 ضحية، بينهم 544 قتيل، وألف و643 جريح. الموتى في دار البقاء، والجرحى يعانون حتى اليوم، بعاهات مستديمة، تبدأ من صداع نصفي ورهاب وأزمات نفسية، مرورا بتشوهات جسدية، وصولا إلى فقدان أطراف وأعين وأجزاء من الجسد. صغار قطعت أوصالهم وهم يلعبون بكرات معدنية انفجرت بين أيديهم في لحظات لهو. رعاة كانوا يبحثون لهم عن مراع جديدة. أرامل فقدوا أزاوجهم. رجال فقدوا إبلهم. عائدون إلى حضن الصحراء وبنوا مخيماتهم فوق حقوق الألغام. زوار أغراهم سكون الصحراء فأشقاهم الموت الرابض بها. آلات المعطوبين والمشلولين والعمي، بعضهم عُوض وآخرون ينتظرون.. وتلك حكاية أخرى...
............................
ضحايا الألغام يروون لـ"المساء" حكايات إصابتهم
المصابون يطالبون الوكالة القضائية بتعويضهم ويهددون بحمل السلاح

هؤلاء هم شخوص الحكاية الأخرى. رجال ونساء وأطفال ما زالوا على قيد حياة متعبة، بأنصاف أجساد وأطراف مبتورة وذاكرات بها ثقب أسود يذكره بمأساتهم المشتركة، بحدث انفجار دام لحظات فغير وجهة أقدارهم.
صعب على بعض ضحايا الألغام بالصحراء المغربية القدوم إلى مقر الجمعية بالسمارة. الطريق إلى هنا مضنية بسبب الإعاقة والفقر وبعد المسافة. نساء أرامل وبنات يتيمات زرن لأول مرة مقر جمعية ضحايا الألغام، والتقوا لأول مرة بصحافي قادم من "الداخل". بدا على حديثهم تأثر بالغ، بعضهم انطلق يسترجع شريط ذلك الانفجار بأسى وتحسر، نسوة غالبهن البكاء وهن يتذكرن آخر ابتسامات علقت بأوجه أزواجهن قبل أن يتفجر بهم اللغم.
توالى السرد، وتتابع التنهديات، احتبست الكلمات في الحناجر تارة، وانهمرت دموع من الجفوف تارت أخرى.. فجأة قرع الباب بشدة بسبب رياح، انتفضوا جميعا وجلين، بعدما ذكرهم صوت قرع الباب بالانفجار الذي غير حياتهم. قرع الباب بقوة مرة أخرى، انتفضوا تارة أخرى مرعوبين.. الشعور ذاته ينتابهم منذ ذلك اليوم، يوم اهتز بهم اللغم. ضحايا الألغام يسردون لـ"المساء" تراجيديا معاناتهم وتفاصيل حكايات رحلاتهم من الصحراء إلى الوكالة القضائية للمملكة، الموكول لها بصرف تعويضاتهم.. لنستمع إليهم.

معطوبو حرب الألغام
محمد الميري، رجل لم يبق منه إلا عين واحدة وأنصاف أيدي ورجلان منهكتان وجسد خائر. كان أول من سرد لـ"المساء" قصته مع "المينا"، أي اللغم. "كان ذلك في الرابع من فبراير من سنة 1983، عندما كنت رفقة أخي في مكان ما بين طنطان والسمارة، بجماعة بطيح تحديدا. كنت أبلغ من العمر سبع سنوات، بينما كان يبلغ أخي خمس سنوات. كنا نجمع علب الحليب والسمك  للعب ووجدنا وعاء.. بدأنا نفتحه حتى انفجر بأيدينا.. قطعت يدي وأبت بالركبة والعين، بينما أصيب أخي في وجهه وعينيه".
ما زال الميرير يتذكر الكولونيل السالك بن الفيطح الذي حل فور الحادث على متن سيارة للقوات المسلحة الملكية بالمكان بعدما رأوا دخانا كثيفا. "نقلونا على وجه السرعة إلى المستشفى الإقليمي بطانطان، ونظرا لكون حالتنا كانت خرطة فقد نقلونا إلى مستشفى الحسن الثاني بأكادير وقضينا هناك سبعة أشهر. أخي تعافى وأنا ذهبت إلى مستشفى الأطفال ابن سينا بالرباط"، يستطرد الميري.
ظل الميري يروي حكايته بعد الحادث، وبعدما تكفل به شخص يشتغل بالتعاون الوطني، ومكث عنده حتى أجرى العملية بالرباط. روى تفاصيل مراسلات عائلته العديدة لمؤسسات بينها جمعية لالة حسناء الخاصة بالمعاقين، وتنقلاته طيلة سنين بين المستشفيات... آخر ما قام به مراسلة مراسلة الوسيط والمجلس الوطني لحقوق الإنسان ووزارات أخرى لم تلق لرسائله بالا ولم تجب عليها، باستثناء وزارة المالية التي ورده منها رد أوضحت فيه أنه لا يمكن أن يحصل على تعويض على اعتبار أن إصابته بلغم مر عليها زمن. لا جديد.
اليوم يزاول الميري الفن التشكيلي ويحصل على دراهم مقابل مشاركته في سباقات لألعاب القوى، لكنه ما زال متعلقا بحلم الحصول على تعويض، "مستعدين نموتو ونضحو، لأن الحالة مرزية، وحتى والدي رفضوني لأنني عالة.. حتى برويطة ما نقدر نهزها"، يقول ميري.
لخميس حمادي، رجل آخر بنصف رجل مفقود. كان أخفهم ظلا، وأكثر وجلا كلما سمع دوي قرع قوي للباب، فلقاء هذا الخريبكي ذي الخمسين عاما مع "المينا" كان مجرد صدفة. حدث ذلك قبل سنوات، في سنة 1993. "انتقلت إلى هنا لأنني عشقت الصحراء. كنت أرعى الغنم وألتقط أعواد التدفئة رفقة صديقي الصحراوي بمنطقة وادي العنكة، على بعد 41 كيلومترا من مدينة السمارة في اتجاه العيون، عندما تفجرت بنا السيارة ودمرت وأصبت في رجلي. صرفت عليها 35 مليون سنتيم قبل أن أبترها"، يروي حمادي.
يحكي حمادي أنه أصيب باللغم في التاسعة صباحا. رجال الدرك لم يحلوا بمكان الحادث حتى التاسعة ليلا، لينقل إلى المستشفى. وإذا كان انتظار حمادي لنجدة دام ساعات فإن انتظاره لتعويض دام سنين دون أن يحصل عليه. "عندما ذهبت إلى الوكالة القضائية فسألوني ماذا كنت تفعل بالصحراء، وبعد ذهاب وإياب قال لي أحد الموظفين: واش عندك مك في العرس؟، أي أن الأمر لن يسوى بدون واسطة. منذ ذلك الحين لم أزر الوكالة القضائية. لدي الآن أولاد أتكفل بهم، والمحسنون هم الذين يتكفلون بي، كما يلزمني الآن مبلغ 40 ألف درهم لإزالة عظم بالركبة"، يردف حمادي.
حادث انفجار اللغم جر على حمادي مشكل التصادم مع رجال الدرك، فبعدما راسل ذات مرة الأميرة لالة مريم مناشدا للتدخل في ملفه، حل بمنزله رجال درك وحققوا معه بسبب هذه المراسلة. هو الآن ممنوع، كما يقول، من زيارة العمالة، "الكاتب العام يطردني كأنني أطلب عشاء"، يستطرد بنبرة هازئة.
أحمد الوعبان، أمين المال الحالي للجمعية. هو أيضا فتح لـ"المساء" كتاب معاناته الذي كتب سطره الأول عندما كان عمره لا يتجاوز العشر سنين. "في سنة 1987، كنت رفقة أخي ترعى بمنطقة بوجريح، على بعد 150 كيلومترا من السمارة، عندما وجدنا إناء حديديا، ظللنا نلعب به حتى انفجر. أخي المحجوب، الذي كان يكبرني، توفي على الفور، ونقلت أنا إلى المستشفى بطانطان. أجريت عملية جراحية بسبب الحادث في بلجيكا من أموال والدي ومحسنين"، يقول الوعبان.
منذ الحين والوعبان يعيش بيد مبتورة. ومنذ 1989 وهو يقتفي أثر تعويض لم يظهر له أثر بعد، "بدأ التعويض هذه السنة، لكنهم اشترطوا على محضرا بالحادثة لا أتوفر عليه. أنجزت شهادة عدلية لكن دون أن يتحرك الملف. لم أنجز المحضر لأنه لم يكن متاحا التبليغ بسبب الجرب الدائرة آنذاك. الإدارة تتعامل بالوثائق أو الوساطة، يقولون غير لي ناضت بيه بوطا يقول المين"، يردف الوعبان.

أرملات أشبال الحسن الثاني
كانت النسوة يتابعن الحديث بتحسر بالغ. جاء دور النها حنيني للحديث. هي أرملة مولاي الساعدي الذي توفي بعد انفجار بغم في ماي من سنة 2000 بمنطقة الحوزة التي زارتها "المساء". "كان زوجي بمفرده على متن سيارة دفع رباعي عندما مر فوق لغم وتفجر به. توفي على الفور. أنجزنا محضرا، وتلقينا تعويضا بعد خمسة أعوام. كان تعويضا قليلا قسم في الميراث داخل الوكالة القضائية بالرباط قبل أن نتوصل به، "تتحدث النها قبل أن يقاطعه أحد الضحايا موضحا أن الوكالة القضائية تطلب من ضحية اللغم الذي ما زال حيا إنجاز خبرة طبية، أما إذا توفي تقر تعويضا يقسم حسب الميراث.
للنها من زوجها المتوفي ابنه يبلغ من العمر الآن 12 سنة. هي التي تكفلت به، فتعويض الوكالة القضائية الهزيل صرف بسرعة، كما توضح.
خديجة لكحل، امرأة أخرى ترملت بعد وفاة زوجها إثر انفجار لغم، سنة بعد وفاة زوج النها حنيني، أي في 2001. كان اسم زوجها قيد حياتهم محمد الحماوي، أحد الموظفين المنتمين إلى ما سمي أشبال الحسن الثاني الذين وظفهم الملك الراحل بالجهة الجنوبية. "في يوم الأحد، الذي كان يوم عطلته، انتقل زوجي رفقة أصدقاء له إلى مكان يبعد عن السمارة بـ12 كيلومترا لمشاهدة عملية ولادة ناقة. كان على محياه فرح عند رأيته آخر مرة. في الطريق، تفجر به لغم فتوفي تاركا لي ابنا. منذ ذلك الحين وأنا أنتقل إلى الرباط وأراسل الجميع دون جدوى. رفضت الزواج من أجل ابني البالغ من العمر 16 سنة الآن"، تتحدث قبل أن تغالب دموعها وتكمل، "لم نتلق حتى تعزية رغم أنه كان ضمن أشبال الحسن الثاني.. حنا ضايعين صحاب الألغام.. المنازل والتعويضات تخصص لأشخاص آخرين.. الأرامل مهمشات وولاد البورجوا مهليين فيهم. دعينا الله لي دايرين الألغام ودورهم بمدينتنا".
تعذر على عايشة القدوري، إحدى ضحيات الألغام، لقاء "المساء". حلت ابنتها لتروي تفاصيل معاناتها مكانها. هذه العائلة جاءت من سيدي المختار بمراكش سنة 1991، في إطار عملية تحديد الهوية قصد تأكيد انتمائهم للأقاليم الصحراوية. أقامت الأسرة في مخيم الربيب، الذي ما زال منتصبا حتى اليوم بمدخل مدينة السمارة من جهة طريق العيون. "في سنة 1992، تفجرلغم بالمخيم وأصاب والدتي بجروح بالبطن والرجل، جاءنا دركيون وحرروا محضرا، ورغم ذلك لم تقر لنا الوكالة القضائية تعويضا. الآن والدتي معاقة وليس لنا دخل"، تقول ابنة عايشة القدوري.
في سنة 1986 أصيب محمد علي بلال، البالغ من العمر 37 سنة، بإصابات إثر تفجر لغم بمنطقة تويجرة، على بعد سبع كيلومترات عن مدينة العيون، بينما كان يتجول رفقة أصدقائه بالسنة الخامسة ابتدائي آنذاك. ما زال يتذكر أصدقاءهم بالاسم، ويتذكر جريهم وراء تعويض بعدما أضعف الحادث بصرهم وأضعف أجساده، "أعاني، منذ الأحداث، ضعف في الذاكرة، ولم تعد لي رغبة في الدراسة بعد ذلك"، يقول بلال في حديثه لـ"المساء".

الحل أو السلاح
الشيخ أحمد بليمام كان آخر المتحدثين. شيخ تذكر سنه بعد جهد وتذكر، 45 سنة. كان أفصحهم وأكثر إحاطة بملف الألغام بالصحراء، بحكم كون كان أول رئيس للجمعية. عينه مفقوءة ورجله مبتورة وأخرى بها تشوهات، السبب لغم تفجر تحت قدميه عندما كان عمره لا يجاوز 12 سنة.
الشيخ أحمد تحدث لـ"المساء" عن حلقات مسلسل جري الضحايا وراء التعويض، "تقدمنا في البداية بطلبات انفرادية لهيأة الإنصاف والمصالحة قصد جبر الضرر، واستبشرنا خيرا بعدما عقدنا لقاء مع المرحوم إدريس بنزكري وخديجة الرويسي. قلنا لهم بالحرف إننا نتمنى أن نعيش فوق شوكة ولا نعيش في محنة مثل التي نعيشها اليوم. لحد الآن لم يطو هذا الملف بينما طويت عدة ملفات"، يقول الشيخ أحمد.
بدا على الشيخ أحمد انفعال كبير وهو يستطرد في رواية تفاصيل ملف ضحايا الألغام. الحاضرون يومئون برؤوسهم إيجابا. "المشكل الصحي الناجم عن حادث اللغم يخلف مرضا نفسيا وحرمانا من التعويضات المادية والوظيفة والتغطية الصحية. هل نحن مواطنون أم لا؟"، يستفسر الشيخ أحمد ويجيبه بوه البخاري، ابن أحد الضحايا، قائلا، " ليجيبونا أو لنسكن في قارة أخرى"، ثم يستطرد الشيخ أحمد قائلا، "نريد حقنا فقط وفوقه لا نريد شيئا، والحق ينزع ولا يعطى. عشنا في زمن الرق ولم نتكلم. كما إذا وضعنا رؤوسنا على الوسائد نستيقظ لأن البوليساريو كانوا يقصفوننا.. عشناها حارة وآخرين كلاوها باردة.. عشنا عيشة القملة في الراس.. عشنا أحر من يوم شمس يوم القيامة".
بتأثر بالغ، وقد زادت نبرته حدة، بدأ الشيخ أحمد يصيح، "لا أحد يمن علينا لأن كل شيء من الدول والدولة أنجزت ولكن المسؤولين لم يقوموا بشيء. هناك ضحايا من الأقاليم الشمالية بينهم تجار كانوا ينقلون السلع على طريق طانطان والعيون. أصيبوا ولم يتم تعويضهم".
يحكي الشيخ أحمد أن الضحايا كانوا ينتقلون يوميا، خلال سنة 2000، إلى الإقامة الملكية بالمعمورة بالقنيطرة من أجل مقابلة الملك. الضحايا تبعوا الملك من الرباط حتى سيدي إفني التي حل بها لتدشين مينائها. لم يظفروا بمقابلة الملك وبثه شكواهم. أمر زاد ضحايا الألغام حسرة في قلوبهم وزادهم هما على هم.
لكن واصلوا الحراك، كما يقول الشيخ أحمد، "بعد تأسيس الجمعية التقينا بممثل عن الصليب الأحمر بشمال إفريقيا سنة 2006، فضلا عن أحمد حرزني، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وخديجة الرويسي، عضو المجلس السابق، وأعطونا وعودا كاذبة. التقينا أيضا رئيسة منتدى نداء جنيف لضحايا الألغام، وهو اللقاء الذي حضره ضباط كبار في الجيش، ووضعناهم في الصورة".
يردف الشيخ أحمد، وهو يكشف عن ساق بها آثار حروق، "من 2005 و2011 لم يتحقق شيء، ولم يستفد الضحايا من شيء.. لا قطع أرضية أو إنعاش أو سكن.. آخر مرة اتصل بنا رئيس الجمعية، امهمد المخلوف، في ماي، وطلب منا كتابة طلبات لمؤسسة الوسيط، لكن دون رد. سلمت الحاجب الملكي بيدي رسالة ووعدني أن يسلمها لجلالة الملك وما زلنا ننتظر".
عندها انتفض الدخيل سيدي، أحد الضحايا الذي أصيب بلغم قرب مدينة السمارة، قائلا، "لم يعد بيدنا شيء سوى السلاح أو الإضراب عن الطعام، وإذا وجدنا السلاح فنحولها ليبيا ثانية.."، ليستطرد الشيخ أحمد قائلا، "ليست لدينا عمالة، هل هي إدارة أو ملك لشخص أو مقبرة؟ إذا كانت خاصة فيلعلقوا لافتة تشير إلى ذلك. هذه السياسة المنتهجة ضد المواطن كي يكره المغرب".
.........................
وحدة خاصة للهندسة بالجيش مكلفة بالألغام وقنابل بحرية منتشرة بالشواطئ الجنوبية


دولاران فقط هي قيمة لغم أرضي، أما تكلفة إزالته والتخلص منه فتقدر بـ4 آلاف دولار، هذا ما يجعل مهمة الوحدة الرابعة للهندسة، وهي فرقة عسكرية تابعة للقوات الملكية المسلحة يوجد مقرها بمدينة العيون، صعبا بحكم إسناد مهمة إزالة الألغام بها.
هذه الفرقة تضم عسكريين متخصصين في كسح حقول الألغام وتمهيد الطريق للنجود المشاة والدبابات قصد التقدم ميدانيا خلال العمليات العسكرية. هذه الوحدة تضم عسكريين لهم تكوين تقني وهندسي معقد على اعتبار أن عملية تمهيد الطريق للقوات المسلحة يتطلب خبرة تقنية وقدرة على استعمال ماسحات حقول الألغام، فضلا عن دراية هندسية بالمسالك والتضاريس لتسهيل مرور المركبات العسكرية. هذا العمل هو الأخطر على مستوى القوات المسلحة كلها، بحكم أن عناصر هذه الوحدة هم الذين يتقدمون وحدات المشاة والفيالق لتمهيد مسالكهم، ويكونون معرضين لخطر انفجارات الألغام أو قصف العدو.
الصعوبات التي تواجه الوحدة الرابعة للهندسة تزداد حدة فيما يتعلق بنوع آخر من الألغام كشفت مصادر مطلعة أنه موجود بالمغرب، يتعلق الأمر بالألغام البحرية الموجودة بالأساس عند الشواطئ المغربية الجنوبية، ما بين الداخلة والكويرة. هذه الألغام زرقاء اللون بلون البحر، باهضة الكلفة، ومزودة بمغناطيس يمكن من الالتصاق بالسفن والقوارب وحتى الكائنات الحية التي تمر بالقرب منها، ثم تنفجر.
عمدت القوات البحرية المسلحة الملكية إلى وضع هذه الألغام البحرية خلال الحرب مع البوليساريو، بهدف منع تحرك القوارب التي كانت قوات الجبهة تستعملها لاختراق المغرب من شواطئه الجنوبية التي ظلت مهجورة وغير خاضعة للمراقبة الأمنية. كما أن كميات الألغام البحرية بهذه المنطقة قليلة، كما يثبت نور الدين ضريف، الأمين العام السابق لجمعية ضحايا الصحراء، نظرا لارتفاع تكلفتها.
النوع المنتشر بشكل أكبر في السواحل المغربية الجنوبية السفلى هي في الغالب ألغام "طوربيدية"، وهو نوع من الألغام تضل خامدة لا تتحرك ولا يمكن تنشيطها بإشارات من خارج الماء، كما هو حال ألغام أخرى، بل ينشط فقط في حال اقتراب جسم معين منه، يكون حديديا، بحكم أن هذا النوع من الألغام مزود بمغناطيس تنجذب بقوة بالأجزاء الحديدية بقوة قبل أن تنفجر مباشرة.
....................
البوليساريو تخزن آلاف الألغام الإسرائيلية والسوفياتية في متحف عسكري

وثائق تثبت خرق الجبهة للاتفاقية العسكرية وتلقيها تمويلا دوليا ضخما لتدمير مخزونها


كشفت تحريات المرصد الدولي للألغام، والمضمنة ضمن تقاريره التي توصلت بها "المساء"، أن مساحة كبيرة من حقول الألغام تم زرعها من قبل جبهة البوليساريو. عمليات الزرع هاته كانت تتم بشكل عشوائي من طرف جنود الجبهة الذين كانوا يبقون الألغام في مختلف الأماكن التي يمرون بها دون ترسيم مواقع دفن هاته الألغام في خرائط.
المرصد الدولي للألغام أبرز أيضا أن كمية من الألغام المضادة للأفراد التي زرعتها البوليساريو، وكمية أخرى تملكها، حصلت عليها عن طريق استخراجها من حقول الألغام الموجودة بالجدار الأمني، والتي يتوفر الجيش المغربي على خرائطها، أي أن البوليساريو عمقت المشكل بتغيير أماكن وضع الألغام.
المنظمة الدولية اضطلعت أيضا على مخزون البوليساريو من الألغام المضادة للأفراد، والتي تم تصنيعها في مجموعة من الدول بينها إسرائيل، دول الاتحاد السوفياتي سابقا ويوغوسلافيا. هذا ما يرجح فرضية تزويد الجزائر وليبيا، في فترة الحرب الباردة، للبوليساريو بالألغام التي يتم استيرادها من المعسكر الاشتراكي.
الأخطر من ذلك هو أن هذا المخزون الذي تتوفر عليه البوليساريو من الألغام غير محدد، فقد كشف المرصد الدولي للألغام، في تقريره الذي تتوفر عليه "المساء"، أن البوليساريو "قدمت سابقا معلومات متضاربة عن مدى مخزونها. في 2002 أخبر البوليساريو مراقب مرصد الألغام كتابة أنه لم يعد لديه مخزون من الألغام المضادة للأفراد ما عدا ألف و606 ألغام للعرض في متحف عسكري. وفى يناير 2006 ، أخبر رئيس المهندسين في البوليساريو أن مخزونها يتكون من أكثر من 10 آلاف لغم مضاد للأفراد ولغم مضاد للمركبات"، يفيد تقرير المرصد الدولي للألغام.
رغم اعتراف تقرير المرصد الدولي أن البوليساريو ثماني بثلاث عمليات لتدمير مخزونها من الألغام، فإنه أبرز أن هذه النشاطات التي قامت بها جبهة البوليسارو تبقى محدودة ومخالفة للقانون، مثل قيام البوليساريو بتدمير الألغام دون سابق إنذار، ما يشكل تهديدا لأمن المغرب يضطر معه الجيش المغربي إلى الاستنفار عند سماع دوي الانفجارات. فقد ذكر التقرير أنه "في خطاب إلى مجلس الأمن فى أبريل 2008، أشار الأمين العام للأمم المتحدة أن انتهاكات البوليساريو للاتفاقية العسكرية رقم 1 بين المغرب والبوليساريو تضمنت تدمير الألغام دون سابق إنذار فى 16 نوفمبر 2007"، يبرز التقرير نفسه.
في المقابل، تحصل جبهة البوليساريو على ميزانيات كبيرة من أجل القيام بعمليات تدمير لمخزونها من الألغام. إذ كشفت وثيقة مضمنة في تقرير المرصد الدولي للألغام، أن مجموع التمويل الدولي المخصص لمكافحة الألغام بـ"الصحراء الغربية" هو 894 ألفا و808 دولارات، لسنة 2007 لوحدها. وتم هذا التمويل من طرف منظمة مكافحة الألغام الأرضية بالنرويج، بقيمة 768 ألفا و600 دولار، كما ساهمت اليابان بميزانية بلغت 126 ألفا و208 دولارات ضمن خدمة الأمم المتحدة لمكافحة الألغام.
.........................
نور الدين ضريف + : حل ملف الألغام مرتبط بإنهاء مشكل الصحراء

من خلال اشتغالك الميداني على ملف الألغام بالصحراء، ما توصيفك لوضع هذا الملف حاليا؟
لا يمكن أن ننكر المجهودات التي قام بها الجيش الملكي منذ أن أعطى الملك تعليماته لتنقية مناطق وادي درعة ووادي الساقية الحمراء ووداي الذهب من الألغام، حيث استطاع الجيش تنقية العديد من المناطق رغم الظروف الجوية والحرارة المرتفعة والتي تحد من وتيرة العملية، وهي مجهودات مغربية صرفة.
إلى جانب العمل على مستوى تنقية الصحراء من الألغام، هناك أيضا حملات تحسيسية قامت بها الجمعية المغربية لضحايا الألغام والسلطات المحلية في صفوف الساكنة بالمناطق الجنوبية، وشملت هذه الحملات بالخصوص البدو الرحل ومستعملي الطريق، حيث انخفض عدد الحوادث إلى أكثر من النصف، كما أنه لم تسجل إصابات في عدة سنوات، وهذا عمل إيجابي ويسجل.
غير أن المنطقة لا زال فيها العديد من الألغام التي لا يمكن تحديد مواقعها نظرا لغياب الخرائط الخاصة بها، وهذا يشكل عائقا كبيرا من أجل تنقية هذه الألغام، لأننا نعرف أن جبهة البوليساريو تضع الألغام بشكل عشوائي دون ترسيم أماكنها في خرائط مضبوطة، وحقول الألغام هاته كثيرة داخل التراب المغربي، عكس الجهة الأخرى، أي ما وراء الحزام الأمني، حيث يوجد عدد قليل من الألغام، والسبب هو أن الحرب من المغرب والبوليساريو كانت جارية فوق الأراضي المغربية.
المطلوب الآن بذل مجهودات أكبر من أجل تنقية جميع المناطق حتى تصبح المنطقة خالية من الألغام، مع الأخذ بعين الاعتبار الصعوبات التي يواجهها الجيش الملكي في هذا المجال، ففي فرنسا مثلا، وهي دول متقدمة، ما زالت فوق أراضيها ألغام تعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية، بمنطقة النورماندي أساسا، رغم التطور التقني بفرنسا، وهو ما يعني أن التخلص نهائيا من الألغام يتطلب وقتا, لكن هذا لا يمنع من أن تستمر عملية التوعية والتحسيس لتفادي الحوادث مستقبلا.

في نظرك، ما الدور الذي يمكن أن تقوم به دول الجوار التي لها علاقة بنزاع الصحراء في ملف الألغام؟
في اعتقادي، يجب الضغط على الجزائر من طرف المنتظم الدولي لكي يتم الحصول، أولا، على خرائط الألغام، على اعتبار أ الجيش النظامي الجزائري ساهم في وضع ألغام بالصحراء المغربية إبان الحرب. أما بالنسبة لجبهة البوليساريو فنحن شبه متأكدين من أنها لا تتوفر على خرائط الألغام التي زرعتها بالصحراء بحكم العشوائية التي تمت بها عمليات وضع الألغام، وهو ما يعزى إلى التجاء الجبهة لطريقة حرب العصابات خلال الحرب ضد المغرب، فضلا عن أن البوليساريو كانت تعتمد على الألغام أكثر من الأسلحة والمقاتلين.
أما بالنسبة للألغام الموجودة على طول الجدار الأمني فيسهل على الجيش الملكي إزالتها في حال حل مشكل الصحراء، لأن هذه الألغام تستعمل حاليا للحد من التسربات وبغرض حماية المناطق الداخلية، وتحقيق هذه الأهداف لن يعود ضرورة ملحة في حال تسوية ملف الصحراء.

وماذا عن ملف تعويض المغاربة ضحايا الألغام؟
لا زال هناك العديد من الضحايا لم يتوصلوا بتعويضات، وذلك نتيجة غياب الإرادة لدى الجهة المسؤولة والتي تلجأ إلى مبررات مختلفة قصد تعويض الضحايا.
وسبق أن زارتنا العديد من المنظمات الدولية كالصليب الأحمر الدولي ومنظمة نداء جنيف، لكن الجمعية (يقصد جمعية ضحايا الألغام) ليست لها شراكات مع هذه المنظمات كي تتم أجرأة التعويضات، وتبقى مهام هذه المنظمات، تبعا لذلك، منحصرة على الاطلاع على الأوضاع، والمسؤولية دائما تتحملها البوليساريو لإنهاء هذا الملف.
إلى جانب ذلك، هناك ضرورة ملحة لتعجيل وزارتي الصحة والأسرة والتضامن والتنمية الاجتماعية ببذل مجهودات، على الأقل من خلال فتح مركز صناعة الأطراف الموجود بمستشفى العيون، والذي أغلق يوما بعد تدشينه.
+ عضو الكوركاس والأمين العام السابق ومؤسس الجمعية المغربية لضحايا الألغام
.............................

محمد سالم الشرقاوي +: المسؤولية تتحملها الدولة والجيش ولا علاقة لصراع الصحراء بالأمر

ملف الألغام من الملفات الساخنة التي تستأثر باهتمام المنظمات الحقوقية، وفي مقدمتها المجلس الوطني لحقوق الإنسان. الضحايا جلسوا مرارا على أعتب المجلس بمقريه، المركزي بالرباط، والفرعي بمدينة العيون، في انتظار هبة ريح من هذه المؤسسة الحقوقية الرسمية لململة ملفهم العصي على التحرك منذ سنين. المجلس بدوره يتحرك في انتظار ما ستقوم به الدولة من تحرك.
في هذا الصدد، التقت "المساء" بمحمد سالم الشرقاوي، رئيس المكتب الإداري الجهوي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان بالعيون، لمعرفة وجهة نظره في الموضوع، إذ حمل الشرقاوي مسوؤلية هذا الملف للدولة المغربية والجيش، على اعتبار أن مشكل الألغام والضرر الناجم عنه يجري فوق التراب الوطني، ولا يمكن ربط هذا الملف بالصراع حول الصحراء.
الشروقاي وصف مسلسل تعويض ضحايا الألغام المغاربة بأنه بطيء وغير متماش مع حجم الضرر الجسدي والنفسي والمعنوي والاجتماعي الناجم عنه، معتبرا أن أبسط ما يجب القيام به هو مواكبة الضحايا نفسيا.
وقال المسؤول عن مجلس حقوق الإنسان بالجهة الجنوبية إنه يجب الوضوح في تحديد المسؤوليات بخصوص ملف الألغام، إذ يطرح عدم التوفر على خرائط ألغام مشكلا بالنسبة للمواطنين الذين يتعمدون على المراعي ويعيشون في إطار ثقافة البدو، "وبالتالي يجب على الدولة تحمل مسؤوليتها في تحديد خرائط الألغام أو نزعها أو العمل على وقف هذا النزيف البشري، هناك مناطق لا يمكن الإقامة فيها بسبب وجود الألغام"، يردف الشرقاوي.
وطالب الشروقاي، في حديثه مع "المساء"، بضرورة توفير مرافق للعلاج أو حتى أجنحة داخل المستشفيات بالمناطق التي تشهد ارتفاعا في عدد الإصابات الناجمة عن الألغام، مستنكرا كيف أن الأمراء الخليجيين الذين ينزلون بالصحراء المغربية قصد الصيد لا يتعرضون لانفجارات الألغام، بينما لا توفر لسكان هذه المناطق الصحراوية الحماية.

+ رئيس المكتب الإداري الجهوي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان بالعيون